عبدالحليم قنديل يكتب : “بوتين” يكسب الرهان

بقلم : عبدالحليم قنديل
على مدى نحو الثلاثة شهور إلى اليوم ، بدأت رهانات الرئيس الأمريكى تهوى ، وبالذات فى علاقته مع روسيا ورئيسها “فلاديمير بوتين” ، وفوارق الخبرة والحنكة والذكاء بين الرجلين لا تحتاج إلى شروح ، إضافة لوقوع “ترامب” فى غواية “بوتين” ، ولأسباب ظل بعضها غامضا إلى الآن ، فقد راهن “ترامب” على إنهاء حرب أوكرانيا فى 24 ساعة (!) ، وبادر منذ استلامه الرئاسة الثانية إلى إجراء اتصالات هاتفية مطولة مع “بوتين” ، وتصور أن فرط إعجابه الظاهر بالرئيس الروسى سيعينه ويشفع له ، ويسهل ويفتح الطريق لإنجاز الرهان ، حتى لو استطالت المهلة من يوم واحد إلى شهور .
لكن مهارات “بوتين” لاعب الشطرنج السياسى ، ذهبت بمقامرات “ترامب” إلى متاهة ، دفعت الرئيس الأمريكى إلى كلمات امتعاض من “بوتين” ومراوغاته ، لم يتخط فيها “ترامب” حدود العتب المتحفظ على صديقه ومثله القيادى الأعلى ، ومن دون أن يتوقف عن تقديم هدايا لروسيا ورئيسها ، لن يكون آخرها قرار “ترامب” بإعفاء روسيا من “هوجة” الزيادات الجزافية فى الرسوم الجمركية ، التى طالت نحو ستين دولة حول العالم ، وإن حاول معاونو “ترامب” البحث عن تفسير ، وجدوه كما قالوا فى ضآلة صادرات روسيا إلى السوق الأمريكية بسبب آلاف العقوبات الاقتصادية الموقعة علي موسكو منذ بدء حرب أوكرانيا فى 24 فبراير 2022 .
وقد نزلت قيمة الصادرات الروسية لأمريكا إلى ثلاثة مليارات دولار سنويا ، ورغم ما يبدو من وجاهة ظاهرة فى التفسير والتبرير ، إلا أنه لا يبدو مقنعا تماما، فكثير من الدول التى شملتها عقوبات الرسوم الجمركية “الترامبية” ، تقل قيمة صادراتها إلى السوق الأمريكية عن صادرات روسيا الحالية .
وبالطبع ، يدرك “بوتين” ، أن انقلابات “ترامب” على السياسة الأمريكية المعادية تقليديا لروسيا فرصة مفيدة لموسكو .
سعى “بوتين” لاستثمارها فى نسيج تفاوض معقد ، يستخدم جموح “ترامب” كحصان طروادة فى اختراق وتفكيك التحالف الغربى المعادى ، وبالذات فى حرب أوكرانيا ذات الطبيعة العالمية ، التى اجتمعت فيها أكثر من خمسين دولة على محاربة روسيا ، ونزلت إلى الميدان الأوكرانى بكل ما تملك من أسلحة ونفوذ اقتصادى ، وفرضت على الاقتصاد الروسى ـ متوسط الحجم ـ ما قد يصل إلى نحو عشرين ألفا من أصناف العقوبات ، وكانت واشنطن هى رأس الحربة وقائدة التحالف كله .
ولم تكن النتائج خلال أكثر من ثلاثة أعوام من الحرب مما يسر قلب الغرب ، فقد صمد الاقتصاد الروسى على نحو مذهل ، ووسعت روسيا أسواقها بالاتجاه إلى الجنوب والشرق بدلا من الغرب ، وصار الاقتصاد الروسى ينمو بمعدلات لم تتح له حتى قبل الحرب ، وضاعفت روسيا إنتاجها الصناعى العسكرى التقليدى والنووى ، وبصورة تجاوزت إنتاج الغرب كله ، سواء كان الغرب الأصلى فى أوروبا وأمريكا ، أو امتداده السياسى فى دول اقتصادات كبرى تقع جغرافيا فى الشرق أو الجنوب الآسيوى ، وبدت معضلة حرب أوكرانيا مستنزفة منهكة للطاقة الغربية كلها ، وعلى نحو صدم التوقعات الأمريكية الأولى باستنزاف وتفكيك روسيا ، التى لم تبدل عنوانها المفضل فى الحرب المعروف باسم “العملية العسكرية الخاصة” ، ولم تعلن أبدا حالة الطوارئ ولا التعبئة الكاملة ، ومع ذلك كان حصاد الميدان العسكرى لصالح روسيا ، ونجحت التعبئة العسكرية الروسية المحدودة بنسبة 1% لا أكثر ، وتابعت تقدمها العسكرى فى المقاطعات الأوكرانية الأربع ( لوجانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون ) التى قررت روسيا ضمها رسميا ، إضافة لسيطرتها السابقة منذ 2014 على شبه جزيرة “القرم” وميناء “سيفاستوبول” .
ورغم تضحيات الروس ربما بمئات الآلاف من القتلى والجرحى ، ورغم اختراقات غربية جرت فى الحرب من وراء القناع الأوكرانى ، كان آخرها التوغل المفاجئ فى مقاطعة “كورسك” الروسية أوائل أغسطس 2024 ، إلا أن الروس وكما كان قانون حروبهم الوجودية الكبرى ، تحملوا التراجعات والهزائم الخاطفة ، ثم عادوا إلى سيرة الانتصار فى النهاية ، وهو ما دفع “ترامب” إلى التفكير الواقعى تماما ، والسعى لسحب واشنطن من المستنقع الأوكرانى ، والبحث عن تعويض مالى لخسائر أمريكا ، واسترداد 375 مليار دولار دفعتها واشنطن عبر اتفاقية “المعادن النادرة” مع الرئيس الأوكرانى “فلوديمير زيلينسكى” ، التى لاتزال مفاوضاتها جارية إلى اليوم ، ويفترض أن نصوص الاتفاقية لاتزال مطروحة للبحث ، ويتفاوض عليها الأوكران فى واشنطن ، التى تريد كسب 500 مليار دولار من عوائد “المعادن النادرة” فى الأراضى الأوكرانية ، ومن دون التزام أمريكا بتقديم ضمانات أمنية دائمة ، ولا بوجود عسكرى على الأراضى الأوكرانية ، ولا تعهدا بضم أوكرانيا فى أى وقت إلى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، ومع استعداد علنى من “ترامب” للتنازل عن الأراضى الأوكرانية التى تريدها روسيا ، وهو ما يتجاوب بالطبع مع مطالب الرئيس الروسى ، الذى لا يبدو فى عجلة من أمره ، ويريد اعتصار عوائد أكبر من فرصة “ترامب” ، وهو ما بدا من خطط تصرفه فى جولات التفاوض مع الأمريكيين ، ففى مفاوضات “الرياض” ، نجحت الوفود الروسية فى سحب الأمريكيين إلى “خية” التفاصيل ، ولم تتجاوب مع رغبة الأمريكيين فى إعلان اتفاق وقف إطلاق نار شامل ، وطرحت صورا جزئية من وقف إطلاق النار ، كما الاتفاق الذى لم ينفذ على وقف قصف منشآت الطاقة ، أو وقف مهاجمة السفن التجارية فى البحر الأسود ، مع اشتراط روسيا فك كل القيود والعقوبات الغربية على تصدير القمح والأسمدة الروسية .
وهكذا وضعت روسيا العصى فى العجلات ، ولم تمكن “ترامب” من الزعم بتحقيق أو التقدم إلى رهانه بوقف الحرب ، بل دقت المزيد من الأسافين بين حلفاء “الناتو” على جانبى المحيط الأطلنطى ، واستمرت فى إذكاء الخلافات بين الأوروبيين وأمريكا “الترامبية” ، واحتفظت لنفسها بفرص مواصلة الحرب ومراكمة انتصارات الميدان بعد تحرير “كورسك” كلها تقريبا ، والشروع فى توسيع مناطق حدودية عازلة تريدها روسيا فى مقاطعات “خاركيف” و”سومى” و”تشيرنيهيف” الأوكرانية ، إضافة لكسب الوقت والحيلولة دون تفجير العلاقة الحسنة الناشئة والمتطورة مع أمريكا “ترامب” ، وتحويل الاهتمام إلى بحث العلاقات الثنائية بين واشنطن وموسكو ، على نحو ماجرى ويجرى فى الجولة الثانية من مفاوضات “اسطنبول” ، المنصرفة بالكامل إلى المسار الثنائى الروسى الأمريكى ، ومن دون ارتباط عضوى بالمسألة الأوكرانية ، وبهدف إنهاء القطيعة الممتدة بين البلدين ، ودفع “ترامب” إلى اتخاذ خطوات ومبادرات فى تفكيك أو حتى إنهاء سلاسل العقوبات المفروضة سابقا على روسيا ، وهو ما قد يجد صداه فى نفس “ترامب” وسلوكه ، الذى يبدو أكثر استعدادا لقطيعة أكبر مع الأوروبيين بالتواقت مع توثيق الصلات والمنافع الاقتصادية مع الروس .
وفى المحصلة إلى اليوم ، تبدو أهداف لعبة “بوتين” مع “ترامب” مما يمكن استنتاجه ، فهو ـ أى “بوتين” ـ يريد بناء علاقات أوثق مع واشنطن ، واستثمار اندفاعات “ترامب” فى تعميق هوة خلاف واشنطن مع الأوروبيين ، الذين يواصلون إعلان تصميمهم على دعم أوكرانيا بالمال وبالسلاح ، ويلوح بعضهم بإرسال فرق عسكرية للقتال مع أوكرانيا ، ويطمح بعضهم إلى تطوير صناعة سلاح أوروبية ضخمة ، قدروا تكاليفها الأولى بنحو 800 مليار “يورو” حتى عام 2030 ، وبدعوى تجهيز أوروبا للدفاع عن دولها فى مواجهة الخطر الروسى ، ومن دون اعتماد على الحماية الأمريكية ، التى يهدد “ترامب” بسحب أرصدتها ، إن لم يدفع الأوروبيون ما يطلبه من نفقات عسكرية ، وإن لم يفتحوا أسواقهم بلا عوائق للسيارات والمنتجات الغذائية الأمريكية إضافة لصادرات الطاقة ، ويتصور “ترامب” ، أن دول الاتحاد الأوروبى ستجثو على الركب فى مفاوضات ما بعد زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية إلى 25% .
فيما تبدو أوروبا فى غاية الارتباك والتخبط ، ويفكر بعض الزعماء الأوروبيين كما الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” ، أن يعودوا لفتح خطوط تواصل مع “بوتين” ، الذى يواصل الرهان بنفس هادئ على خلافات المعسكر الغربى ، ومن دون التفريط فى أوراق روسيا الرابحة ، سواء فى ميدان الحرب الأوكرانية ، أو فى صلات “العروة الوثقى” التى صارت تجمعه مع الصين الزاحفة إلى عرش العالم اقتصاديا وتكنولوجيا ، وكشرت من أنيابها فى مواجهة رسوم “ترامب” الجمركية المضاعفة إلى 104% ، وردت وترد عليها الصين بصفعات قوية ، لا تكتفى بمبدأ المعاملة بالمثل فى الحروب التجارية ، بل تحرم واشنطن من إمدادات “المعادن النادرة” الضرورية للصناعات التكنولوجية ، وتتمتع فيها الصين بتفوق حاسم ، إذ تنتج الصين 271 ألف طن من “المعادن النادرة” سنويا ، بينما أمريكا لا تنتج سوى 40 ألف طن سنويا ، و”بوتين” يراهن بالأساس على تمتين تحالفه الاقتصادى والعسكرى مع الصين ، ودعم التحول إلى عالم متعدد الأقطاب ، ومواصلة سعيه بالتعاون مع الصين فى إنهاك وشق التحالف الغربى ، ولا مانع عنده من استثمار اندفاعات “ترامب ” للتعجيل بكسب الرهان العالمى .
Kandel2002@hotmail.com