شكرت مصر وتركيا.. أسرة الدكتورة يارا “الشهداء الأحياء” تلتقى بأنقرة بعد عام من الفراق والحرب

كتب – أيمن عامر
في مشهد مأساوي من مشاهد الحرب التي استمرت عاما كاملا، تعرض برج المهندسين في حي النصيرات بغزة لقصف إسرائيلي عنيف في 31 أكتوبر 2023، كانت الدكتورة يارا المغاري، البالغة من العمر 26 عامًا، مع بنتيها تيا ولارا ووالدتها ووالدها وشقيقها وشقيقتها، في الشقة عند وقوع الكارثة.
من تحت الركام إلى الأمل: رحلة الدكتورة يارا المغاري
تعرضت شقة أسرة الدكتورة يارا المغاري، إلى قصف العدوان الإسرائيلي لينهار البرج ويسقط سكانه شهداء والقليل منهم مصابين وجرحى بين الحياة والموت، ليهرول الأهالي والمسعفين لانتشال جثث الشهداء والمصابين والجرحى من تحت الركام.
الشهداء الأحياء
واعتقد المسعفين للوهلة الأولى عند وصولهم لمكان ركام الدكتورة يارا وبنتيها اللذين احترقا بنيران الصواريخ الإسرائيلية في عداد الشهداء بعد وقف قلوبهم عن النبض جراء الحروق والكسور الشديدة وانهيار البرج فوق رؤوسهم واجسادهم المصابة، لينقل الجميع شهداء وجرحى إلى مستشفى الأقصى بدير البلح.
ومن بينهم والدتها وشقيقها عاهد وشقيقتها سهاد وبنتيها تيا ولارا واللذين اشتعلت فيهم النار جميعا حتى سقوط جلودهم، وأصبحت يد الدكتورة يارا جلد بدون عظم وذلك خلال احتضان ابنتها في محاولة لإنقاذها من الحريق والنيران.
وعند المستشفى تفاجئ محمد شقيق الدكتورة يارا الذى كان يزور أبناء عمه المصابين بوصول عائلات برج المهندسين شهداء وجرحى من سيارات الإسعاف، ليكتشف أن من بينهم شقيقته الدكتورة يارا وبنتيها وأمه وشقيقته بين الشهداء والمصابين.
كما تم نقل الاخبار بين الناس أن جميع سكان البرج استشهدوا لم يتبقى أحد منهم على قيد الحياة حينها شاهدت أسيل شقيقة الدكتورة يارا، التي تعيش خارج قطاع غزة ، مجزرة برج المهندسين على شاشات التليفزيون وتعلم أن جميع سكان البرج وعددهم ٢٥٠ شخص في عداد الشهداء، لتصاب بانهيار عصبي وتدخل المستشفى هي الأخرى.
روت الدكتورة يارا المغازي الصيدلانية ٢٦ عاما ، التي أتت مع بنتيها للعلاج بالقاهرة عبر معبر رفح قصتها المأساوية لحظات الرعب تستعيد يارا ذكرياتها قائلة: “سمعنا صوت انفجار مدوي، ثم تتابعت الصواريخ، لم نتمكن من رؤية شيء، فقد تحول كل شيء إلى ظلام وركام” في تلك اللحظات، اعتقدت أن أسرتها بالكامل قد فقدت، إذ انهارت الجدران فوق رؤوسهم. عندما تم انتشالهم، ظن المسعفون أنهم شهداء بسبب الإصابات الخطيرة.
البحث عن الأمل
في مستشفى الأقصى، فوجئت يارا برؤية أفراد عائلتها. بينما أصيبت هي وبنتاها ووالدتها وشقيقتها وشقيقها بحروق شديدة، فقدت والدها، الحاج أنور، الذي لم يتمكن أحد من انتشاله من تحت الأنقاض “كان خبر استشهاده قاسيًا، لم يكن لدينا سوى الذكريات لنحملها”، تتابع يارا بمرارة.
قالت الدكتورة يارا ، كنت اسكن في غزة وعندما شن العدوان الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، نزحت مع بنتاى إلى مكان إقامة عائلتي بالنصيرات في شقة بالدور الثاني ببرج المهندسين المكون من سبعة طوابق ٢٨ شقة بشارع ٢٠.
تفجير القنابل
وأضافت الدكتورة يارا ، في ٣١ أكتوبر ٢٠٢٣ الساعة الثانية ونصف بعد الظهر ، فوجئنا بتفجير شديد بالقنابل والصواريخ لقواعد البرج في الدورين الأول والثاني، الذى تحطم جدرانه وسقط أدواره أرضا وامتلئ ركام البرج بدماء وجثث الشهداء وتبعثرت أشلائهم على الأرض.
ووقعت الحجارة فوق رؤوسنا وتحول مكاننا إلى ظلام وسواد بشكل مخيف جدا، ولم نستطيع رؤية بعض أو نستطيع الحركة لإنقاذ بعضنا فقط كنا مكبلين وسط الركام والظلام، وبعد ذلك سقطت ثلاث صوايخ أخرى على البرج ، مؤكدة استشهد جميع سكان البرج وعددهم ٢٥٠ شهيد ومن بينهم والدى الحاج أنور حسني عبد الجواد ٤٩ عاما، ومكسنا ٢٥ دقيقة نحترق بنيران الصواريخ ونحن بنتشوى بالنار أنا وبنتاى وأمي الحاجة ياسمين عمر المغربي ٤٤ عاما وشقيقتي سهاد وشقيقي عاهد، وكنا بنشتشهد ونصرخ ولا أحد يسمع صوتنا وصرخاتنا ، حتى دخلنا في غيبوبة من شدة الألم والحروق والكسور .
غيبوبة النار
وقالت الدكتورة يارا بدأنا ندخل في غيبوبة ، ففقدت شقيقتي سهاد الوعى أولا وهى تحترق، فقلنا ، سهاد استشهدت ، ثم فقد شقيقي عاهد الوعى وهو يحترق فقلنا، عاهد استشهد، ثم فقدت بنتى لارا الوعى ، فتحسرت وقلت ، ابنتى استشهدت هي الأخرى ، ثم استغاثت بنتي الثانية بى ، يا ماما الحقينى أنا بتحرق.
وأضافت فمديت يدى عليها في محاولة لإخماد النيران من عليها فاحترقت يدى هى الأخرى حتى سقط الجلد من على العظم، وفى النهاية عندما فقدتا بنتاى وعيهما ، فقدت أنا الأخرى الوعى بعدما ظننت أنهما استشهدا، وظلت أمي هي الوحيدة التي لم تفقد الوعى ورفعت أصبعها السبابة بعلامة الشهادة متلقنة الشهادتين حتى سقط الحجر من عليها لتخرج من فتحة صغيرة وتستغيث بالرجال والنساء ليحضروا مياه لإطفاء أجسادنا التي تحترق ويخرجونا من تحت الأنقاض والركام حتى جاءت سيارة الإسعاف ليأخذونا ونحن محترقين ومقطوعين النفس ظنين أننا شهداء فقال المسعف للأهالي، هؤلاء شهداء.
حياة الشهادة
وقالت الدكتورة يارا ، إن المسعف أجرى الإنعاش القلبي لبنتي لارا حتى أفاقت ، ثم أفقت أنا على سماع صراخ بنتي وقلت الحمد لله بنتي عايشة، مشيرة وفى سيارة الإسعاف كان يوجد انبوبتين فقط، ونحن ثلاثة ، فأعطيت انبوبة لبنتى لارا والانبوبة الأخرى لشقيقي عاهد وظليت انا مقطوعة النفس لمدة ثلث ساعة حتى وصلنا للمستشفى .
وعند وصولنا للمستشفى ، قلت الحمد لله على نعمة الحياة بعد معايشة نصرة الشهادة ، حيث أعتقد الأهالي والمسعفين أننا شهداء بعد توقف حركتنا تماما ، لينقلونا مع جثث الشهداء إلى مستشفى الأقصى ، ليكتشف الأطباء أننا مازلنا نتنفس وعلى قيد الحياه لكن بناتى محروقين من الدرجتين الثالثة والرابعة ويصرخان ألما من شدة الإصابات.
جثث الشهداء
وأضافت الدكتورة يارا ، بعد أفاقتى من الغيبوبة، كنا نبحث عن بعضنا بين جثث الشهداء واجساد الجرحى المترامين بالمستشفى وطرقاتها والحمد لله وجدت جميع أفراد عائلتي على قيد الحياة في المشفى ماعدا والدى لم يستطيعوا إخراجه من تحت الأنقاض، موضحة ، أن والدها كان يصلى في غرفة منفردة وجميعهم كانوا في غرفة أخرى وقت القصف.
وأشارت إلى أن ما حدث لهم معجزة حيث أن العدوان الإسرائيلي كان يقصف البرج من الأسفل ليسقط البرج من أعلى ، وبالرغم أننا كنا بالدور الثانى وفى أسفل البرج لكن ربنا نجانا بمعجزة إلهية .
مستشفى الأقصى
وتابعت الدكتورة يارا ، ولأنه لا يوجد قسم خاص في الحروق بمستشفى الأقصى، تم تحويلنا أنا وعاهد اخي وسهاد اختي وتيا ولارا بنتاى إلى مستشفى الأوروبي في مدينة خانيونس ، وهناك كان يوجد قسم خاص بالحروق مع فريق أطباء من الخارج ، وظلت أمي وأخي بلال وأختي لارا فى مستشفى الأقصى لأن إصابتهم كانت متوسطة.
واستطردت الدكتورة يارا ، اتصلوا بمحمد أخي ذات ال ٢٥ عاما للتعرف على جثة والدنا من بين ٢٥٠ شهيد ، جثث واشلاء من سكان البرج ولكن لم يكن والدي من ضمنهم .
جثة والدى
استمر محمد أخي في البحث عن جثة والدي لمدة ٣ أيام بين الركام وحطام البرج . والحمد لله استطاع أن يجد والدنا شهيدا كان في اخر لحظاته يصلى بين يدى الله ، وقاموا بالصلاة عليه ودفنه، رحمة الله على والدنا الحبيب.
وقصت الدكتورة يارا معاناتها وأسرتها خلال الإصابة والعلاج بالمستشفى ، قائلة ، كانت المعاناة داخل مستشفى الأوروبي صعبة جدا ، فعدد المصابين والجرحى هائل جدا جدا ولم تكن الكوادر الطبية قادرة على إسعاف ومعالجة العدد الهائل ولا توجد أسرة كافية للمرضى ولا يوجد ماء للشرب أو للاستعمالات الأخرى ولا يوجد مسكنات ألام ، ويخرج الدود من المرضى لقلة وجود المطهرات ومواد التنظيف ، فضلا عن غلاء أسعار الغذاء ،حيث لم نتمكن من شراء المواد الغذائية . وكنا نعاني من ألام الحروق وألم الفقد وقلة مقومات الحياة بشكل عام.
زوجي تحت التفجير والاغتيالات
وقالت الدكتورة يارا ، زوجي كان موجود في بيت أهلي قبل القصف بساعة واحدة لكنه خرج مع أهله النازحين إلى رفح ، وهو أيضا تلقى الخبر وكان في حالة من الذهول ، بعد ذلك أتى إلى المشفى لمساعدتنا وبقى معي في المشفى خلال فترة وجودي في مستشفيات غزة، لكن زوجي لم يتمكن من الخروج من غزة ومازال موجود في غزة حتى الآن ينزح من هنا وهناك تحت القصف والتفجير والاغتيالات.
20 عملية جراحية
وأكدت الدكتورة يارا ، أجريت أكتر من ٢٠ عملية جراحية لعلاج حروقي وبترت أصابع يدى ، وأجرت بنتي لارا ٤ عمليات في رأسها ، كما أجرت تيا ابنتي الصغيرة ٥ عمليات في ساقها واخر عملية كانت بتر لأصبع قدمها الصغير . كذلك يجرى اخى عاهد عملية يوم بعد يوم من تاريخ ٣١ أكتوبر الماضي و حتى هذه اللحظة ومازال يعاني داخل المستشفى.
العدوان الإسرائيلي
وتذكرت الدكتورة يارا ، بألم وحسرة ، أختي سهاد ١٦ سنة كانت متفوقة جدا وجميلة جدا جدا ، لكن نيران الصواريخ والقنابل الإسرائيلية حرقت وشوهت جسدها بالكامل ودخلت العناية المركزة لمدة أسبوعان حتى استشهدت متذكرة ، في هذا اليوم كنت فى المستشفى وطالعة من عملية وبنتي ستجرى عملية بعدي وجاء خبر وفاة اختي كصدمة صاعقة ، وأصبت بانهيار عصبي وقتها ، ولم اشعر بنفسى خلال ٣ أيام ، وكان الدكتور يعطني منوم.
رحلتي إلى مصر
وقالت الدكتورة يارا ، في بداية شهر ديسمبر الماضي تم تحويل ابنتي الصغيرة تيا مع أمي وأخي بلال ١٥ سنة واختي لارا ٨ سنوات إلى مصر وتم استقبالنا بمستشفى في العريش لاستكمال علاجنا وبتاريخ ٢٨ / ١٢ / ٢٠٣٣ تم تحويلي أنا وعاهد أخي ١٩ عاما وابنتي تيا ٦سنوات إلى مصر، واستقبلتنا مستشفى السلام التخصصي في القاهرة ، وبدأنا استكمال مراحل العلاج.
شكراً لمصر
وأكدت الدكتورة يارا ، عند وصولنا الجانب المصري من معبر رفح ، عاملونا افضل معاملة واستقبلونا أحسن استقبال وأكرمونا افضل ضيافة ، وقام الشرطي بتقبيل يد ابنتي لارا تقديرا لما مرت به معاناة ، وقام المسعفين والأطباء المصريين بنقلنا للمستشفى بأسرع وقت وأفضل رعاية ، وبدأنا استكمال العلاج بالمستشفيات المصرية.
وتوجهت بالشكر والتقدير للدولة المصرية رئيسًا وشعبًا وحكومة لحسن الاستقبال وكرم الضيافة وتميز العلاج، كما توجهت بشكر خاص جدا للمصريين لاستقبالهم بمصر أم الدنيا وشقيقة العرب بكل أخوة وترحاب.
رحلة إلى تركيا
بعد فترة من العلاج، تلقت يارا خبرًا مشجعًا: تم الترتيب لنقل بنتيها و عائلتها إلى تركيا لاستكمال العلاج “كانت تركيا ملاذًا لنا استقبلونا بشكل جيد وأعطونا الأمل في العلاج”، تشرح.
وأوضحت الدكتورة يارا ، بعد ذلك تم تحويل جميع أفراد عائلتي، والدتي وبنتاي وشقيقي عاهد إلى تركيا بتاريخ ١٠ / ١ / ٢٠٢٤ لاستكمال العلاج بأنقرة، وبقيت انا ومحمد أخي في مصر ومنذ هذا التاريخ حتى هذه اللحظة لم أرى بنتاى وعائلتي وأشقائي.
مناشدة إنسانية
وناشدت الدكتورة يارا بإيصال مناشدتها الإنسانية إلى السفير صالح موطلو شن سفير تركيا بالقاهرة، لسفرها هى وأخيها محمد إلى تركيا لجمع لم شمل الأسرة وحتى تلحق ببنتيها لمتابعة استكمال علاجهم وتعليمهم بمدارس تركيا الذين التحقا بهما البنتان مع استكمال علاجهما، ذلك بعد العديد من المحاولات للسفر دون جدوى.
وعلى الفور تم نقل قصة الدكتورة يارا وبنتيها وأسرتها والمعاناة الشديدة التي عاشوها خلال قصف العدوان الإسرائيلي لشقتهم ببرج المهندسين واستشهاد الأب ثم الأخت واصابة بنتيها وأشقائها ووالدتها بالحروق والكسور، وتفرق بنتيها عنها مع جدتهم بتركيا والمطالبة بالسفر إليهم لمتابعة استكمال علاجهم وتعليمهم بتركيا، ليقرر السفير صالح موطلو شن منح تأشيرة السفر للدكتورة يارا فورا لتسافر إلى إسطنبول ثم أنقرة وتلحق ببنتيها وعائلتها بتركيا بعد فراق دام عشرة أشهر.
وتوجهت الدكتور يارا بالشكر والعرفان للسفير صالح موطلو شن سفير تركيا بالقاهرة على الاستجابة الفورية لمنحها تأشيرة السفر لتحلق ببنتيها ووالدتها بتركيا لاستكمال العلاج والتعليم حتى يتوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذى استمر لعام كامل وخلف أكثر من ٤٠ الف شهيد وأكثر من ١٠٠ الف مصاب.
وتعود الأسرة إلى الأراضى الفلسطينية وقطاع غزة الأبى، موجهه الشكر والتقدير لدولة تركيا رئيسا وحكومة وشعبا على استضافة أفرد اسرتها وعلاجهم وتعليم بنتيها حتى لا يضيع مستقبلهم ويصبحوا أطباء للإنسانية مختصة الدولة المصرية رئيسا وحكومة. وشعبا على دخولها الوطن الأم للعلاج والإقامة وسط الشعب المصرى العظيم وحل مشكلتها وجمعها بأسرتها بعد غياب وتفرق عشرة أشهر.
الأمل في العودة
على الرغم من الألم والفقدان، تعبر يارا عن أملها في العودة إلى غزة يومًا ما، لتعيد بناء حياتها وعائلتها في وطنها قائلة “المستقبل قد يبدو مظلمًا، لكنني أؤمن بأننا سنعود”.
مع مرور الأيام، تظل يارا رمزًا للأمل والصمود، تسعى لتمكين ابنتيها من تحقيق أحلامهما، لتكونا طبيبتين أو مهندستين يقدمن الخدمة للإنسانية.