دبلوماسية المصالح

الدكتور عادل عامر
أن حماية مصالح المصريين في الخارج تُعد بمثابة أولوية قصوى لعمل البعثات المصرية في دول الاعتماد، مشيراً في هذا الصدد إلى أن تقديم الخدمات القنصلية للمواطنين المصريين وتعزيز ربطهم وأسرهم بالوطن الأم يُمثل إحدى ركائز عمل وزارة الخارجية، داعياً رؤساء البعثات المصرية بالخارج إلى تذليل كافة العقبات التي تواجه الجاليات المصرية في دول الاعتماد، والتواصل معهم بصورة دورية ومباشرة للاستماع إلى آرائهم وبحث كيفية تعظيم الاستفادة من الخبرات والقدرات المصرية في الخارج لدعم الجهود التنموية للدولة المصرية . تحظى الدبلوماسية بمكانة متميزة فى العلاقات الدولية المعاصرة،
حيث أصبحت المدخل الأساسى الذى يتم من خلاله حماية ورعاية مصالح الدول والأفراد. وينظر للدبلوماسية المعاصرة على أنها تعيش مرحلة الانتقال من الدبلوماسية التقليدية بوسائلها وأدواتها المتعارف عليها إلى دبلوماسية لها أدوات جديدة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، فبعد أن كانت آلية تقليدية تتعلق بمسألة تعزيز العلاقات بين الدول، تحولت إلى آلية متعددة الأبعاد، والاتجاهات، والمسارات، والأطراف، فباتت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمختلف المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية للمجتمعات، والدول، والفواعل المختلفة الأخرى.
فى هذا السياق، أصبح التعدد فى الأنماط أهم ما يميز الدبلوماسية المعاصرة، فهناك أنواع عديدة للدبلوماسية، ومنها: دبلوماسية التنمية، والدبلوماسية الرئاسية، والدبلوماسية الشعبية، والدبلوماسية الرياضية وغيرها، وهذه الأنواع متفاوتة بحسب تأثرها بالعوامل والمتغيرات المختلفة، وتفاوت طبيعة الأنظمة السياسية التى تمثلها. إن الوظيفة الرئيسة للدبلوماسية هى تمثيل مصالح الدولة من خلال أعمال ممنهجة عن طريق المفاوضات التى تجرى بين الدول والتى تفيد فى تقريب وجهات النظر وإقناعها وتوجيهها.
وقد شهدت الوظيفة الدبلوماسية تحولاً متسارعاً فى ظل التطورات العالمية، وظهور الفضاء الرقمى بكل أدواته ووسائله الحديثة، حيث أدركت الدول ذات السياسات الخارجية النشطة أهمية دمج الدبلوماسية الرقمية فى عملية صنع السياسة الخارجية، ومن ثم أصبح توظيف الفضاء الإلكترونى فى العمل الدبلوماسى من الأدوات الجديدة التى تساهم فى خدمة أهداف السياسة الخارجية، والانفتاح على الخارج وسرعة تبادل ونقل المعلومات، ومن ثم لم تعد الدولة الفاعل الوحيد فى صنع السياسة الخارجية، وأصبح إلى جانبها فاعلون آخرون يقومون بالعديد من المهام الدبلوماسية، فى إدارة التفاعلات الدولية عن طريق التأثير على العنصر البشرى، ومنه الدبلوماسية، والمبعوثين الدبلوماسيين فى طرق جمع وإرسال المعلومات.
اذ إتضح لنا ان بعثات رعاية المصالح تنشأ عن طريق اتفاق ثلاثة دول هي الدولة (المعتمد لديها) والدولة الراعية والدولة المستفيدة (التي تعمل تحت علم الدولة الراعية على اقليم الدولة المعتمد لديها)، و ان هذه البعثات مرت بمراحل من التطور والارتقاء اذ لم تبق حبيسة نصوص اتفاقية فيينا بل انتجت لنا الممارسة العملية مظهر معاصر للبعثات، يختلف عما نصت عليها الاتفاقية، و لا سيما على صعيد الجهاز البشري، اذ انتقلت مهام الحماية والرعاية من موظفي الدولة الراعية إلى موظفي الدولة المستفيدة، لكن تحت علم وشعار الدولة الراعية .
واتضح لنا لكي تمارس هذه البعثات مهامها على اتم وجه لا بد من منحها الاعفاءات والامتيازات الدبلوماسية، التي بدونها يصبح افرادها لا حول ولا قوة على اقليم الدولة المعتمد لديها، مع وجود بعض الاستثناءات والقيود التي قد تفرض من قبل الدولة المعتمد لديها ،على موظفي الدولة المستفيدة، منها : منعهم من التحرك خارج المنطقة المخصصة لهم، او رفع علم او شعار دولتهم .
اضف إلى ذلك توصلنا إلى ان هذه الاعفاءات قد يساء استعمالها من افراد بعثة رعاية المصالح، مما يرتب مسؤولية على الدولة الراعية والدولة المستفيدة، سواء على نطاق القانون الدولي العام او الدبلوماسي.
واقترحنا تضمين اتفاقية فيينا لعام 1961، المظهر المعاصر لبعثة رعاية المصالح لما لها من اهمية كبيرة على تعزيز العلاقات بين الدول والحفاظ على المصالح المشتركة، اضف إلى ذلك ضرورة النص على الاعفاءات التي تتمتع بها هذه البعثات مع ضرورة التزامها في احترام قوانين وانظمة الدولة المعتمد لديها وعدم اساءة ما يمنح لها من حقوق واعفاءات .
يؤكد المشهد الحالي على نظرية خضوع العلاقات الدولية دائمًا لقانون حماية المصالح، فلا عداء دائم ولا صداقة دائمة بل مصلحة دائمة، وفي الحالة المصرية-التركية فرض تقاطع المصالح- وليست المصلحة الواحدة – التقارب بين البلدين؛ فإن أهم ما يميز هذا التصالح أنه جاء في التوقيت المناسب سواء على مستوى العلاقات الثنائية بين الدولتين أو على مستوى الإقليم بشكل عام؛ حيث أصبح التعاون وتجاوز المسائل الخلافية ضرورة قصوى لحماية مصالح الدولتين ودعم استقرار المنطقة.
فمن ناحية، كانت للمصلحة الوطنية ورغبة كل دولة في تعظيم مكاسبها اقتصاديا وسياسيا دور أساسي في فرض هذا التقارب؛ حيث تتقاطع المصالح بين مصر وتركيا في عدة ملفات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية نتيجة الثقل الجغرافي والاستراتيجي الذي يتمتع به الطرفان. ومن ناحية أخرى، سيمثل تقارب أكبر قوى الشرق الأوسط عسكريا واقتصاديا أهم دعامة لاستعادة استقرار المنطقة وحمايتها من الانزلاق نحو حرب إقليمية محتملة نتيجة التحديات المتواترة التي يشهدها الإقليم، وتصعيدات الحرب الإسرائيلية على غزة، وما ترتب عليها من أزمات عديدة حولت المنطقة إلى كتلة لهب جعلت الإقليم في حاجة ماسة إلى مثل هذا التقارب ، لذلك تمثل زيارة الرئيس السيسي إلى أنقرة تتويجًا لعودة العلاقات بينهما إلى مسارها الطبيعي واستعادة توازنها بعد سنوات من الفتور،
وتعتبر تأكيدًا على أن الدولة المصرية تخطو خطوات صحيحة فيما يتعلق بإدارة علاقاتها الخارجية؛ حيث تتبنى سياسة التوازن والانفتاح وتلجأ دائمًا إلى الاعتماد على فكرة الدبلوماسية الهادئة لضمان تحقيق مصالحها الاستراتيجية؛ فتحرص دائمًا على الوقوف على مسافات متساوية من الجميع دون الإضرار بمصالحها وأهدافها، وتجدر الإشارة أيضا إلى أن عودة العلاقات تحديدًا في مثل هذا التوقيت الصعب الذي يشهده الإقليم تعكس حكمة البلدين في إدارة ملفاتهم وعلاقاتهم الخارجية ووعي أكبر القوى الإقليمية بخطورة ما يمر به الشرق الأوسط من تكالب أطراف إقليمية على مصالح دول المنطقة، بالإضافة إلى الدعم غير المشروط الذي تقدمه لهم القوى الغربية، مما جعل تضافر الجهود ضرورة قصوى للخروج من الأزمات التي تهدد استقرار المنطقة وأمنها القومي ؛ لذلك كان التعاون المشترك هو السبيل الأمثل لتحقيق ذلك وحرصت كل منهما على عدم تصعيد التوترات، وتجميد الخلافات السابقة، والسعي نحو إقامة علاقات ودية، وبدء صفحة جديدة في العلاقات المصرية-التركية.
لى الصعيد المؤسساتي بدأت تترسخ في وقت مبكر فكرة إنشاء السفارات والمفوضيات في جميع أنحاء أوروبا، ومع نهاية القرن التاسع عشر تبنى العالم بأسره الدبلوماسية على الطريقة الأوروبية لأنها أضحت نظاما دبلوماسيا مكتمل النمو. وتنسب إلى الكاردينال الفرنسي ريشيليو؛ صاحب المنهج الكلاسيكي في العلاقات الدولية، القائم على مبدأ الدولة المستقلة الذي تحركه المصالح القومية كهدف نهائي، فكرة تأسيس أول وزارة خارجية في العالم سنة 1626.
وهكذا أصبحت لدى الدول الكبرى سفارات في نظيرتها من الدول الكبرى، ومفوضيات في الدول الصغرى. فعلى سبيل المثال لم تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الأول من تأسيسها سوى على مفوضيات في الدول الأجنبية، وبالمثل لم تكن لدى حكومات هذه الدول في العاصمة واشنطن سوى مفوضيات. لكن بحلول عام 1893، أجاز الكونجريس الأمريكي ترقية عديد من المفوضيات إلى سفارات شريطة أن تتخذ الدول الأخرى الخطوة نفسها. ومن حينها والسفارات تحل محل المفوضيات، حتى عام 1966، حيث تحولت آخر مفوضيتين أمريكيتين في كل من بلغاريا والمجر إلى سفارات، ما يدل على الأهمية المتزايدة التي توليها الولايات المتحدة الأمريكية لسياستها الخارجية.
تقليديا اختصت الدبلوماسية بصيغتها التقليدية؛ من حيث النطاق في المقام الأول، بالانتقال من حالة الحرب إلى حالة السلم والعكس صحيح. بعبارة أخرى، كانت الدبلوماسية تعنى بأوجه التواصل في فترات الصراع وصناعة السلام. لكن متغيرات الفترة المعاصرة، فرضت اتساع نطاق النشاط الدبلوماسي مع ضغوط الحرب الباردة، وحديثا مع الحرب الدولية على الإرهاب؛ لتشمل تأسيس علاقة اتصال بين الحكومات والمواطنين، وهو ما يعرف على نطاق كبير باسم الدبلوماسية العامة، وقد صاغ هذا المصطلح الدبلوماسي الأمريكي إدموند جوليون عام 1960، معلنا بذلك تجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية.
تولت اتفاقية هافانا لعام 1928 تنظيم “مهام المسؤولين الدبلوماسيين” في إطار الدبلوماسية التقليدية، ومن أبرز ما جاء فيها عدم تدخل هؤلاء في الشؤون الداخلية للدولة المضيفة، وأن تقتصر علاقاتهم معها على المعاملات الرسمية. وجاء مؤتمر فيينا لعام 1961 في المنحى نفسه، حيث تم فيه رسم الشكليات الدبلوماسية القانونية، والتأكيد على أن العلاقات الدبلوماسية لا تعترف إلا بتلك التي تسري على النطاق الدولي فقط. بقي أن نشير ختاما إلى أن من السمات المميزة للعولمة في القرن الحادي والعشرين ازدياد تعقد العلاقات الدولية، وسرعة انتقال المعلومات حول العالم، ما يفتح سبلا جديدة لممارسة الأنشطة الدبلوماسية، ويساعد في الوقت نفسه على انضمام مشاركين جدد إليها.
لذا بات من الصعب غض الطرف عن السياسات الدبلوماسية التي تمارس على نطاق النظام الاقتصادي الدولي، بدءا من الأنشطة التي تمارسها الشركات المتعددة الجنسيات إلى تدخلات المنظمات الحكومية الدولية العاملة على مستوى العالم، ولا سيما منظمة التجارة العالمية؛ فلهذه المنظمات بدورها شبكات من العلاقات الدبلوماسية التي تعمل داخل الأنظمة التقليدية وخارجها. وينطبق الأمر نفسه على نطاق شاسع آخر من النشاط الدبلوماسي يتمثل في منظمات المجتمع المدني.