عرب وعالم

العكلوك: تضحيات الشعب الفلسطيني لن تذهب أدراج الرياح وسيناضل كي ينال حقوقه

قال السفير مهند العكلوك، مندوب فلسطين لدى جامعة الدول العربية، إن هذه التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني لن تذهب أدراج الرياح، بدعم أشقائنا وأصدقائنا حول العالم.

وأضاف في كلمته خلال اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين، في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، أن الشعب الفلسطيني العظيم سيحاصر حصاره في كل مرة، وسيكافح عدوه في كل مرة، وسنبقى نناضل كي ننال حقوقنا في الحياة، ونجسد استقلال دولة فلسطين.

وإلى نص الكلمة:

السلام عليكم من فلسطين إلى كل بلاد العُرب أوطاني من الشامِ لبغدان، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصر فتطوانِ (من قصيدة فخري البارودي)

أنقل إليكم تحيات ريم وطارق، روح الروح، طفلان غزيان في عمر الزهور.

بتسّلم عليكم أم يوسف، الطفل الأبيضاني الحلو، أبو شعر كيرلي.

مازال يتردد صدى صراخ تلك الأم الثكلى: “ماتوا ولادي قبل ما ياكلوا.”

ويُغرقنا جرح ذلك الأب المكلوم الذي خرج يصارع حصار إسرائيل القاتل، ويُدبّر كسرة خبز أو شربة ماء لأطفاله، فعاد ليجدهم أشلاء.

ويخدش هدوء الأنقاض، بعد قصف إسرائيلي وحشي مجرم، بكاء طفل سألوه بعدها ماذا تريد من العالم، قال أن أسير على قدمي مرة أخرى و أن أمسك يدي، قالها وهو ينظر إلى أطرافه المبتورة، واستدرك يسأل الطبيب: ماذا فعلتم بها؟

ويُحرج الإنسانية صوت طفلة عرفت أمها الشهيدة من شعرها، وتمنت أن يكون قتلها مجرد كابوس.

وذلك الطفل الذي طلب شعرة من رأس أخيه الشهيد قبل دفنه، فمنحوه الشعرة التي أراد ودفنوا أخاه الذي أحبّ في مقبرة جماعية، إلى جانب 6150 طفل فلسطيني شهيد، بعضهم أجساد محروقة، وبعضهم أشلاء مقطعة، والقليل منهم جثامين مكتملة.

وائل الدحدوح أيضاً، الصحفي الرجل الصبور المكابر، الذي بقي حياً، بعد اغتيال أسرته، انحنى أمام أجساد أسرته المسجاة أمامه، وبكى قليلاً، ثم وقف ثانية ليكمل رسالة الصحافة، ومسيرة 70 صحفي من زملائه قتلتهم “إسرائيل” المُجرمة.

كلهم يهدوكم السلام، لكن مدحت الطبيب المُتفاني في خدمة الجرحى، لأسابيع دامية في مستشفى الشفاء بغزة، ذهب لتفقد أسرته، فقصفتهم جميعاً الطائرات الإسرائيلية المجرمة، مدحت لم تمهله “إسرائيل” لا ليعيش في سلام، أو ليرسل لكم السلام، لكنه التحق بـ 207 شهيد من الأطباء والممرضين والمسعفين.

أحمد العربي، الطفل الفلسطيني الذي أخرجوه من تحت أنقاض بيته، فقال لأبيه: أريد أن أنام قليلاً. وتلك الطفلة، مريم، التي سألت رجال الدفاع المدني حين أخرجوها من تحت أنقاض بيتها، هل تأخذونني إلى المقبرة، قالوا: بل أنت حية وجميلة يا صغيرة. لكن 26 من رجال الدفاع المدني لم يعودوا أحياءً ليخبرونا مزيد من القصص، قتلتهم إسرائيل.

وتلك السيدة أم العبد، حين قصفت طائرات العدو بيتها، قال لها مسافر، الحمد لله على سلامتك. المال مُعوّض، فأجابت السيدة النازحة قسراً: البيت ليس مالاً، لكنه ذكريات العائلة، وإطلالة الشباك على بحر هائج مرة وهادئ كالزيت مرة (كما يحلو لأهل غزة أن يشبهوه بالزيت في هدوئه). البيت هو ذكريات الشتاء الدافئ وصوت المطر وصفير الرياح، وهو ذكريات الهواء الغربي الآتي برائحة البحر في صيف غزة.

وفي غزة أبواب البيوت تفتح من الخارج سامحة للضيوف. البيت هو الذكريات التي كنا نستمتع بتصورها في حاضرنا، فأصبحنا نخشى استدعاءها كي لا تجرحنا بعد رحيل بيتنا. آهٍ يا بيتنا المرحوم، ما أقساها وما أثقلها تلك المتفجرات الإسرائيلية الغادرة التي دمرت بعض أرواحنا فيك عندما حطمتك.. لو كنت أدري أنه الوداع الأخير، لقبّلت جدرانه وتركت له بعض الدواء، ولكني تركت فيه الكثير من كتب الله، التي أرجو أنها قد خففت آلامه وهو ينحني تحت وطأة الشيطان. صدق من قال: للبيت روحٌ كما للناسِ أرواحُ…

إسرائيل قد قصفت قطاع غزة بما يعادل ثلاث قنابل نووية من حجم تلك التي ألقيت على هيروشيما. وذلك في إطار مخطط تدمير انتقامي ممنهج، مبني على أسس عقائدية مستوحاة من أساطير منسوبة للتوراة ظلماً وعدواناً.

وقد مهد قادة الاحتلال لجريمة الإبادة الجماعية بتصريحات عنصرية لا مثيل لها في التاريخ، من قبيل وصف الشعب الفلسطيني بالحيوانات البشرية والنازيين الجدد، ووصف الحرب بأنها بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الحصار والحشية، بين الديمقراطية وشريعة الغاب.

على مدار 48 يوم من العدوان، إسرائيل ارتكبت وما تزال، جريمة إبادة جماعية متكاملة الأركان، على أسس قومية وعقائدية وعنصرية، وذلك من خلال قتل المدنيين بالآلاف، والتدمير الممنهج للمباني والبُنى التحتية، والتهجير القسري والتطهير العرقي، وإخضاع 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة لحصار قاتل، شمل قطع كل أشكال الحياة، من ماء وكهرباء ودواء وغذاء ووقود.

وقد أدت هذه المذبحة المستمرة حتى الآن إلى استشهاد 15 ألف من المدنيين الفلسطينيين، بينهم 6150 طفل، 4 آلاف امرأة، ألف مُسن، و1400 مجزرة، يعني قصف عائلات بعضها استشهدت بالكامل: الأب والأم والأبناء والأحفاد، كل منهم له قصة وله عائلة وله أحباء، وكلهم قتلهم العدو الإسرائيلي، عدو الحياة والإنسانية والقيم والقانون والأخلاق، قوة الشر العنصرية الهمجية المنفلتة، نظام الفصل العنصري والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.

وما يزال 7 آلاف تحت الأنقاض، منهم 4700 طفل وامرأة: عيسى وموسى ومحمد وأحمد ويعقوب وطارق وإسحاق وعمر، ومريم وياسمين وريم وآية وكوثر ووردة وريحانة وفلة، والقائمة لا تنتهي.

كما أدى هذا التدمير الممنهج الذي يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إلى تدمير 50 ألف بيت، تدميراً كلياً، و240 ألف جزئياً، وهو ما يعادل 60 بالمئة من بيوت قطاع غزة.

واستهدفت إسرائيل تدمير 266 مدرسة هي الآن مأوى لعشرات آلاف النازحين قسراً، منها 67 مدرسة خرجت عن الخدمة.

واستهدف 174 مسجد و3 كنائس، 88 مسجداً تم تدميرها كلياً. و26 مستشفى و55 مركز صحي، خرج عن الخدمة.

واستهدفت إسرائيل في تدميرها المنهجي الجامعات والمراكز الثقافية ودمرت وحرقت المكتبات التي تحتوي على كتب ومخطوطات تاريخية يعودها عمرها إلى مئات السنين، وهو تكرار لتاريخ النكبة 1948 حين خصصت فرق في العصابات الصهيونية لنهب وسرقة الكتب، هذه الجرائم التي تذكرنا بالمغول – التتار الذي حرقوا ودمروا مكتبة بغداد العظيمة تماماً مثل الغرباء الغزاة الذين ليس لهم تاريخ أو حضارة أو ثقافة.

وما تزال إسرائيل تسعى  لتكرار سيناريو نكبة فلسطيني لعام 1948، من خلال التطهير العرقي وتهجير الشعب الفلسطيني مرة أخرى من بلادهم، وقد أدى  العدوان الإسرائيلي حتى الآن إلى تهجير 1.7 مليون فلسطيني داخل قطاع غزة، وهنا نحذر من نوايا ومخططات إسرائيل المستمرة للتهجير  القسري أو النقل الجبري.

والحال في الضفة الغربية المحتلة ليس أفضل مما عليه الحال في قطاع غزة، فكل يوم يقتحم جيش الاحتلال ومستوطنيه بحملات إرهابية بشعة المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، ويقتل ويصيب ويعتقل المئات، ويهدم البنى التحتية ويحق الأشجار والممتلكات، ويزيد وتير الضم والاستيطان الاستعماري، ويعمق نظام الفصل العنصري الإجرامي.

وفي القدس تستمر حملات التهويد والتهجير والقمع والقتل الرهيبة بلا هوادة، ويستمر حصار المسجد الأقصى المبارك ومنع وصول المسلمين إليه ممن تقل أعمارهم عن 60 عاماً، ويستمر اقتحامه اليومي بمئات المستوطنين الإرهابيين، ومحاولات تقسيمه زمانية ومكانياً.

اسمحولي أن أختم كلمتي ببعضٍ من قصيدة مديح الظل العالي للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وليسمح لي درويش هذه المرة فقط بالتصرف في قصيدته ليس تصرفاً للضرورة الشعرية معاذ الله، ولكنه تصرف للضرورة السياسية التي يُمليها المكان والزمان.

محمود درويش لم يعش مرتين، ولكن الجريمة تكررت مرات ومرات:

نامي قليلاً، يا ابنتي، نامي قليلا

الطائراتُ تعضُّني وتعض ما في القلب من عَسَلٍ

فنامي في طريق النحل، نامي

قبل أن أصحو قتيلا

الطائراتُ تطير من غُرَفٍ مجاورةٍ الى الحمَّام ,

فاضطجعي على درجات هذا السُّلّم الحجريِّ،

انتبهي إذا اقتربتْ شظاياها كثيراً منكِ

وارتجفي قليلا

نامي قليلا

كُنَّا نحبُّك يا ابنتي،

كنا نَعُدُّ على أصابع كفِّك اليُسرى مسيرتَنا

ونُنْقِصُها رحيلا

نامي قليلا

الطائراتُ تطيرُ، والأشجارُ تهوي،

والمباني تخبز السُكَّانَ، فاختبئي بأُغنيتي الأخيرةِ، أو بطلقتيَ

الأخيرةِ، يا ابنتي

وتوسّديني كنتُ فحماً أَم نخيلا

نامي قليلا

واتركي كفِّي، وكأسَيْ شاينا، ودعي الغَسيلا

نامي قليلا

ثم خاطب ذلك الطفل الذي أراد النوم بعد خروجه من تحت ركام بيته الذي حطمته طائرات العدو:

نَمْ يا حبيبي، ساعةً

لنمُرَّ من أحلامك الأولى إلى عطش البحار إلى البحارِ.

نَمْ يا حبيبي، ساعةً

حتى يعود الرومُ، حتى نطردَ الحرَّاسَ عن أَسوار قلعتنا،

وتنكسر الصواري.

نَمْ يا حبيبي ساعةً، حتى نموتْ

هيَ ساعةٌ لوضوحنا

هيَ ساعةٌ لغموضِ ميلادِ النهارِ

وفي الحصار:

لا شيء يطلعُ من مرايا البحرِ في هذا الحصارِ،

عليكَ أن تجدَ الجسدْ

في فكرة أُخرى، وأن تجد البلدْ

في جُثَّةٍ أخرى، وأن تجد انفجاري

في مكان الانفجار…

أينما وَلَّيْتَ وجهكَ:

كلُّ شيء قابلٌ للانفجارِ،

والتهجير القسري:

هي هجرة أخرى .. فلا تذهب تماما

هي هجرةٌ أُخرى…

فلا تكتتب وصيتكَ الأخيرةَ والسلاما.

سَقَطَ السقوطُ ، وأنت تعلو

فكرةً

ويداً

و…شاما!

لا بَرَّ إلاّ ساعداكْ

لا بحرَ إلاّ الغامضُ الكحليُّ فيكْ

فتقمَّصِ الأشياء خطوتَك الحراما

وبعد القصف والتدمير:

الآن فالأحوال هادئة تمماً مثلما كانت . وإن الموتَ يأتينا بكل

سلاحه الجويِّ والبريِّ والبحريِّ مليون انفجار في المدينة

هيروشيما هيروشيما

وحدنا نُصغي إلى رعد الحجارة هيروشيما

وحدنا نُصغي لما في الروحِ من عبثٍ ومن جدوى

ونمشي في الشوارعِ باحثين عن السلامة

من سيدفننا إذا متنا ؟

عرايا نحن , لا أُفقٌ يُغَطينا ولا قبرٌ يوارينا

سقطتْ قلاعٌ قبلَ هذا اليومِ، لكن الهواء الآن حامضْ

وحدي أدافع عن جدارٍ ليس لي

وحدي أدافع عن هواءً ليس لي

وحدي على سطح المدينة واقفٌ…

أَيُّوبُ ماتَ، وماتتِ العنقاءُ، وانصرفَ الصَّحابَهْ

وحدي . أراود نفسيَ الثكلى فتأبي أن تساعدني على نفسي

ووحدي

كنتُ وحدي

عندما قاومت وحدي

وحدةَ الروحِ الأخيرهْ

وبعد أن تبين لنا سوءة هذا العالم، بمعاييره المزدوجة وارتهانه المفضوح للنظرة العنصرية الصهيونية التي تفرق بين الأطفال والنساء على أساس عرقي وقومي وإثني، وبعد أن أسقط العالم أخلاقه في فلسطين، سقط قناع الإنسانية، وسقط الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في يوبيله الماسي، وسقط القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين في النزاعات المسلحة، سقط السقوط، وبدأ أطفال غزة يكتبون أسماءهم على أشلائهم:

أَشلاؤنا أَسماؤنا. لا .. لا مَفَرُّ

سقط القناعُ عن القناعِ عن القناع،

سقط القناعُ

لا إخوةٌ لك يا أَخي، لا أَصدقاءُ

يا صديقي، لا قلاعُ

لا الماءُ عندكَ، لا الدواء و لا السماء ولا الدماءُ ولا الشراعُ

ولا الأمامُ ولا الوراءُ

حاصِرْ حصَارَكَ… لا مفرُّ

سقطتْ ذراعك فالتقطها

واضرب عَدُوَّك … لا مفرُّ

نشكر كل الأشقاء العرب والأصدقاء حول العالم، كل الدول والشعوب، الذين سعوا لوقف العدوان وكسر الحصار، ونؤكد أن هذه التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني لن تذهب أدراج الرياح، بدعم أشقائنا وأصدقائنا حول العالم، وأن الشعب الفلسطيني العظيم سيحاصر حصاره في كل مرة، وسيكافح عدوه في كل مرة، وسنبقى نناضل كي ننال حقوقنا في الحياة، ونجسد استقلال دولة فلسطين:

وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ

ويختم درويش: وإن سألوك عن غزّة قل لهم : بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد.

زر الذهاب إلى الأعلى