الرئيسيةمقالات الرأي

الدكتور عادل عامر يكتب : كيف تعيد أمريكا والصين تشكيل العالم

 

بقلم : الدكتور عادل عامر

أن فعالية الرسوم الجمركية في تعزيز قطاع التصنيع الأمريكي ليست حاسمة، إذ لم تحقق سياسات ترامب الجمركية منذ 2018 الأهداف المرجوة. فقد وجدت دراسة أجراها باحثا الاحتياطي الفيدرالي، آرون فلاين وجاستن بيرس عام 2024، أن زيادة الرسوم ارتبطت بانخفاض القوى العاملة في قطاع التصنيع الأمريكي وارتفاع أسعار المنتجين، كما أدت إلى فقدان 75 ألف وظيفة مباشرة، فضلًا عن خسائر غير مباشرة بسبب الرسوم الانتقامية التي فرضتها الدول الأخرى. وفي قطاع الصلب، أظهرت دراسة للخبيرين بن ستيل وإليزابيث هاردينج أن الإنتاجية تراجعت بعد فرض ترامب رسومًا بنسبة 25% على واردات الصلب في مارس 2018، حيث انخفض الإنتاج في الساعة بصناعة الصلب الأمريكية بنسبة 32% منذ عام 2017، في حين شهدت قطاعات صناعية أخرى زيادات في الإنتاجية. ورغم أن ترامب يعوّل على هذه السياسات لإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة، فإن نجاح هذا النهج يعتمد أيضًا على السماح للشركات الأجنبية بالاستثمار في السوق الأمريكي، وهو ما يتناقض مع المواقف السياسية لكل من بايدن وترامب، اللذين رفضا استحواذ شركة نيبون ستيل اليابانية على يو إس ستيل، بل وما زالت واشنطن تناقش ما إذا كان ينبغي السماح لصندوق الاستثمارات العامة السعودي بالاستحواذ على حصة مسيطرة في جولة بي جي إيه، وهي الجهة المنظمة لبطولات الجولف الأمريكية، رغم أن هذا القطاع ليس حيويًا بأي حال من الأحوال.

 

ما يحدث اليوم ليس مجرد منافسة اقتصادية، بل تحول في النموذج الاقتصادي الأمريكي نفسه. فمع نجاح الصين غير المتوقع في قطاع السيارات الكهربائية والتكنولوجيا النظيفة، اضطرت الولايات المتحدة إلى تقليد سياسات بكين، لا بسبب الإيمان بأهميتها، بل بسبب فعاليتها الواضحة. لم يكن صعود الصين قائمًا على تحرير السوق، بل على تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق أهداف قومية. واليوم، تتحرك الولايات المتحدة نحو نموذج يشبه إلى حد كبير «رأسمالية الدولة القومية»، التي تتسم بالحمائية، وقيود الاستثمار الأجنبي، والدعم الحكومي، وسياسات صناعية موجهة. في صراع تحديد قواعد اللعبة الاقتصادية، يبدو أن المعركة قد حُسمت لصالح الصين، على الأقل في الوقت الراهن.

 

لم تأتِ هذه الأزمة من فراغ؛ فالاحتقان بشأن العجز التجاري الأمريكي مع الصين يعود إلى سنواتٍ سابقة. منذ التسعينيات، برزت الصين لاعبًا صناعيًّا عملاقًا. ومع انضمامها لمنظمة التجارة العالمية عام 2001، ارتفعت صادراتها إلى الولايات المتحدة لتصل إلى مئات المليارات سنويًّا. لا يزال الجدل قائمًا حول مدى نجاح سياسة بايدن الصناعية خارج بعض القطاعات الرئيسية. صحيح أن الاستثمار الأمريكي في التصنيع شهد ارتفاعًا، لكن النتائج ليست حاسمة بعد. وكما أشار الاقتصادي جيسون فورمان في الشؤون الخارجية مطلع هذا العام، فإن نسبة القوى العاملة في التصنيع تواصل الانخفاض، ولم تشهد أي ارتفاع ملحوظ، كما ظل إجمالي الإنتاج الصناعي المحلي راكدًا. ويعود ذلك جزئيًا إلى تأثير السياسات المالية التي دفعت إلى ارتفاع التكاليف، وقوة الدولار، وزيادة أسعار الفائدة، مما شكل رياحًا معاكسة لقطاعات التصنيع غير المشمولة بالدعم الحكومي.

 

وترى غالبية التيارات اليمينية في الولايات المتحدة -ومنهم ترمب- أن تلك الطفرة عرّضت المصنع الأمريكي «للنهب»، مؤديةً لفقدان وظائف في قطاعات الحديد والصلب والنسيج. وطرح ترمب، خلال حملاته الانتخابية، فكرة أن العجز التجاري «سرقة»، وأن الحلَّ الوحيد فرضُ رسومٍ جمركية حادة.

 

ومن منظورٍ اقتصادي بحت كان صعود الصين، وبشهادة تقارير اقتصادية معتبرة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حتميًّا، بفعل وفرة اليد العاملة وانخفاض التكلفة. إضافةً إلى سياسات صينية مكثفة -قد لا تكون عادلة- في دعم قطاعات التصدير.

 

ساهم تضخم العجز التجاري الأمريكي مع الصين، الذي بلغ نحو 263.3 مليار دولار عام 2024 -وفق بيانات محدّثة حتى نهاية العام- في تغذية المشاعر الحمائية داخل الولايات المتحدة، وأخذ ترمب ذلك ذريعةً لتدشين أكبر مواجهةٍ جمركية منذ قانون سموت – هولي في 1930.

 

من أبرز مهندسي التصعيد الاقتصادي في إدارة ترمب، مستشار التجارة، بيتر نافارو، الذي آمن طويلًا بأن الصين تمارس سياساتٍ غير عادلة وتسرق التكنولوجيا الأمريكية. كذلك لَعِب روبرت لايتهايزر، أحد كبار مستشاري ترامب السياسيين وممثله التجاري السابق، دورًا محوريًّا في المفاوضات وقيادة الضغوط

 

أما في الجانب المالي، فقد عبّر سكوت بيسنت، وزير الخزانة، عن اقتناعٍ بأن واشنطن تملك «هيمنة التصعيد»، مستندًا إلى نظرية: الصين لا تستطيع ردّ الضربة اقتصاديًّا بالحدة نفسها. اعتقد ترمب أن رفع الرسوم سيُرغم بكين على تقديم تنازلاتٍ تتعلق بالتكنولوجيا وملكيّة الشركات الأجنبية، وسيُرضي القاعدة الانتخابية التي ترى في الصين الخصم الأبرز استراتيجيًّا للولايات المتحدة. كما راهن على دعمٍ داخلي من الولايات الصناعية المتضررة –مثل بنسلفانيا وأوهايو– معتقدًا أن توطين الصناعة سيعوض الخسائر. لكنه تجاهل تحذيرات بعض الجمهوريين التقليديين الرافضين للحمائية المتشددة، ممن يعدّون هذه السياسة تهوّرًا يهدد استقرار السوق والاقتصاد العالمي، والأمريكي تبعًا لذلك.

 

جاء الرد الصيني عنيدًا، أو كما ذكرت بلومبرق: «في الحرب التجارية المتصاعدة بين أمريكا والصين، لن تكون بكين هي الطرف الذي سيرمش أولًا. الرئيس شي جين بينق، قادر على تحمل آلام اقتصادية وسياسية أكبر بكثير من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.» إذ رفعت بكين الرسوم على الواردات الأمريكية إلى 125%، وهدّدت بالمزيد إذا سارت واشنطن نحو مستوياتٍ جنونية قد تبلغ 200%.ما كان مفاجئًا للبعض، تنظيم الصين لصفوفها بسرعة؛ حيث كشفت قدراتها المالية والاقتصادية عن قدرة البنك المركزي الصيني على دعم الاقتصاد -من خلال ضخ السيولة وتحرير الاحتياطيات- لمواجهة أي انكماش تجاري مفاجئ، مما يوفر حماية مالية قوية. وفي الوقت نفسه، تعمل الشركات الصينية الكبرى على تنويع أسواقها عبر التوسع في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، بهدف استقطاب أسواق بديلة لتعويض أي تراجع في الصادرات إلى الولايات المتحدة.

 

وعلى الصعيد الداخلي، تستثمر القيادة الصينية خطاب «العداء الأمريكي» لتعزيز النزعة القومية الصينية، في بلد يتميز باعتداده واعتزازه الذاتي، مما يبرر سياسات الإنفاق والتحفيز الواسعة، مع التأكيد على رفض الرضوخ والخضوع للضغوط الخارجية. من جهةٍ أخرى، تحتفظ الصين بسلاحٍ محتمل -على الأقل نظريًّا- متمثل في حيازتها الضخمة لسندات الخزانة الأمريكية، وإن كان هذا سلاحًا ذا حدين.

 

شهدت السندات الأمريكية بأجل عشر سنوات قفزةً في العوائد بنحو 4.5% – 5% وهو مستوى تاريخي يضاعف تكلفة الاقتراض الحكومي، على مستوى الأفراد والشركات. ويعني هذا ارتفاعًا في كلفة الرهون العقارية والقروض الاستهلاكية؛ ما قد يبطئ الاستهلاك ويرفع مخاطر الركود، فيما تُضطر الشركات لتأجيل توسعاتها أو إغلاق خطوط إنتاج، فتفقد شرائح من العمال وظائفها.

 

تمتلك الصين -بصفتها ثاني أكبر حائز أجنبي لسندات الخزانة الأمريكية بقيمة تتراوح بين 760 و761 مليار دولار حتى يناير 2025- أداةً مالية هائلة يمكنها التأثير في الاقتصادين الأمريكي والعالمي. ويُشار إلى إمكانية بيع هذه السندات بـ«الخيار النووي»؛ لما قد يترتب عليه من اضطرابات كبيرة في الأسواق المالية.

 

لكن هذا القرار السياسي -قبل أن يكون اقتصاديًّا- محفوف بمخاطر جمة على الصين نفسها؛ لأن هذه السندات ليست مجرد استثمار، بل ضمان سياسي للتعاون بين البلدين. وهنا يبرز التساؤل حول مدى جدوى استخدام الصين لهذه السندات سلاحًا اقتصاديًّا وسياسيًّا.

 

فبيع السندات قد يؤدي إلى انخفاض أسعارها، مما يرفع تكاليف الاقتراض الأمريكية، لكن هذا التحرك سيضرّ أيضًا بالصين؛ إذ يقلل من قيمة أصولها المُقوّمة بالدولار، ويعرّض اقتصادها -المعتمد بقوة على التصدير- لمخاطر كبيرة.

 

ويشير الخبير الروسي ألكسندر نازاروف، في منشور على تلقرام، إلى أن بيع السندات سيطرح تحديًا كبيرًا: «أين ستستثمر الصين الدولارات الناتجة؟ تحويل هذه الأموال إلى اليوان سيرفع قيمته، مما يقلل تنافسية الصادرات الصينية، وهو ما يتعارض مع استراتيجيتها الاقتصادية.»

 

تستغل الصين أيضًا، ببراعة، نقاط ضعف الاقتصاد الأمريكي، وخاصة القطاعات الزراعية، وتستخدمها وسيلةً للضغط السياسي والرد على سياسات ترمب التجارية. فقد فرضت الصين رسومًا جمركية انتقامية على المنتجات الزراعية الأمريكية، مثل فول الصويا ولحم الخنزير، مستهدفةً بشكل رئيس الولايات الزراعية في الوسط الأمريكي التي تُعدّ معاقل دعم ترمب، مثل آيوا ومينيسوتا.

 

هذه الإجراءات أثّرت بشدة في المزارعين؛ حيث تسببت في انخفاض الصادرات الزراعية وخسائر اقتصادية كبيرة، مما اضطر الحكومة الأمريكية لتقديم تعويضات بمليارات الدولارات بين عامي 2018 و2020. وكانت هذه الرسوم ردًّا على التعريفات الجمركية التي فرضها ترمب على الواردات الصينية، والتي وصلت إلى أكثر من 250 مليار دولار في فترته الأولى.

 

وتسعى الصين لضرب ترمب في مناطقه الداعمة، مستغلةً الاعتماد الأمريكي على السوق الصينية للمنتجات الزراعية. وبات هذا نهجًا لبكين في معاركها مع الولايات المتحدة؛ فهي تستخدم القوة الاقتصادية أداةً سياسية، مع الحفاظ على احتياطي من الإجراءات لمواجهة أي تصعيد مستقبلي. من أبرز الأسلحة غير التقليدية التي تمتلكها الصين: احتكارها لسوق المعادن النادرة؛ إذ تسيطر الصين على نحو 80% – 90% من موارد تلك المعادن، وعلى 85% من عمليات فصلها عالميًّا. وتُنتج الغالبية العظمى من المغانط النادرة المستخدمة في صناعات دقيقة، مثل الطائرات المقاتلة والسيارات الكهربائية والتوربينات الهوائية.

 

وفي خطوة تصعيدية، فرضت الصين قيودًا على تصدير سبعة من هذه المعادن إلى العالم، مما أجبر الشركات الأمريكية على طلب تراخيص للتوريد، وهو تحرك قد يتطور إلى حظر شامل (على أمريكا بالتحديد). وتشمل هذه العناصر عناصر ثقيلة يصعب استبدالها، مثل الديسبروسيوم والتيربيوم، التي تُعد مكونات حيوية للمغانط العالية الأداء.

 

بدأت أمريكا جهودًا لتطوير سلسلة توريد محلية، مدعومة بقانون الإنتاج الدفاعي، مثل مشروع منجم ماونتن باس في كاليفورنيا ومصنع في تكساس لإنتاج المغانط. ومع ذلك، يُقدّر الخبراء أن تحقيق الاكتفاء الذاتي قد يستغرق من 3 إلى 5 سنوات بسبب التحديات التقنية والبيئية.

 

والصين، لا تهيمن فقط على الموارد، بل أيضًا على التقنيات اللازمة لمعالجتها، وقد منعت مؤخّرًا تصدير هذه التقنيات، مما زاد من تعقيد المشهد على أمريكا. وفي حال استُخدم هذا السلاح بالكامل، فقد يؤدي إلى اضطرابات واسعة في سلاسل توريد أمريكا لمنتجاتها التكنولوجية والدفاعية.

 

في أسبوع واحد، تراجع الرئيس ترمب عن سياسة التعريفات الجمركية العنيفة التي هزّت الأسواق العالمية وعوائد السندات، معلنًا هدنة 90 يومًا، لا تشمل الصين، تحت ضغوط اقتصادية وداخلية من فريقه، ووسط مخاوف من انهيار مالي.

 

وتناقض تصريحاته برز جليًّا: فبعد تأكيده الواثق «أنا أعرف تمامًا ما أفعله!» ووعوده بأن «كل شيء سيكون على ما يرام»، اضطر للإذعان لهلع الأسواق، كاشفًا هشاشة استراتيجيته أمام ردود فعل الأسواق القوية.

 

وبدا أن ما يخرج من تصريحات وتسريبات متعددة من البيت الأبيض، بعد التصعيد الأمريكي الأولي، يُشير إلى رغبة من ترمب للتهدئة مع بكين، ممزوجة بخشية من الضرر الذي يمكن أن تُحدثه لاقتصاد «أمريكا ترمب»؛ حيث توقع ترمب أن يتلقى مكالمة هاتفية من الرئيس الصيني، في إشارة واضحة إلى رغبته بالحوار. لكن هذه الإشارات المتعددة لم تلقَ ترحيبًا صينيًّا؛ فقد اكتفت الصين باستعدادها للحوار، لكن ليس بشروط أمريكا. ورافق ذلك تهديدات صينية بأشكال متعددة للولايات المتحدة الأمريكية، مبينة قدرتها على إحداث الضرر بالاقتصاد الأمريكي.

 

الدكتور عادل عامر

 

دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي

 

ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري

 

وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا

 

زر الذهاب إلى الأعلى