
الدكتور عادل عامر
احتلال العقل هو الاحتلال الأكثر تأثيراً في حركة الشعوب إذا ما اقتحمت الأيديولوجيا المشهد، باعتبارها قادرة على إحداث شق في بنية الأمة عصي على الالتئام، فما بين محافظين متأصلين وبين قادمين أصوليين تتعطل لغةٌ وتحل مكانها غير لغة الكلام، وهو ما مضت به سائر الأمم التي دخلتها الأيديولوجيا، ثم لاحقاً غادرها سيل أكوام اللحم الأدمي المهدور، فمسألة القادم الجديد في أي أمة ما لم يشكل حداثة رافعة ونهضة صاعدة، يبقى حالة تشويه غير نظيفة، ولو كان خطاباً نظرياً فقط، فالأيديولوجيات علمتنا أنها مجرد بداية نظرية،
وتختتم حياتها حكايا دموية. من هنا كانت المرحلة الدعوية وسيلة مهمة لاحتلال العقل لو أنهم استمروا فيها، فقد سيطروا على نسبة لا يستهان بها، وهو طموح الإخوان المسلمين اليوم، والذين تحدثوا مراراً عقب أزماتهم وفشلهم عن الفصل بين ما هو دعوي وبين ما هو سياسي، غير أن التاريخ يقول في حال الإمة، إنه عقل عصي على الاحتلال، وهو قادر على النهوض من الحضيض على نقيض غيره من الأمم التي اندثرت بما دون ما تعرضت له المجتمعات العربية. ليس الاحتلال فقط للأراضي أو للشعوب. بل هو أيضاً للأذهان والعقول. وكما قامت حركات تحرر وطني ضد احتلال أراضي الشعوب كذلك تقوم حركات تحرر ثقافي لتحرير العقول والأذهان حتى بعد مغادرة الاستعمار.
فإن المغلوب مولع بتقليد الغالب، كما لاحظ ابن خلدون، وكما هو حادث أحياناً لدى بعض المثقفين في المغرب العربي أو في لبنان. وقد حرص الاستعمار أثناء احتلال الأراضي والشعوب على زرع لغته وثقافته والولاء له من خلال نظم التعليم الأجنبية. فخرجت أجيال حرة أرضاً ومحتلة لغة وثقافة ورؤية. والحقيقة أن احتلال العقول هو استمرار لاحتلال الأوطان. وما لم تتحرر العقول تظل الأوطان أسيرة لكثير من أنواع القصور والتخلف. والعقول حرة بطبيعتها، من داخلها وبطبيعة تكوينها. تطلب البرهان من أجل الاقتناع الداخلي والحوار مع الآخرين والسيطرة على الطبيعة وتحويل المجتمع والطبيعة إلى عالم معقول، يخضع لقانون وليس أسير إرادة تسيرهما كما تشاء.
وفي هذا الأمر لا فرق بين الفكر والدين. كلاهما يطلب البرهان، كما طلبه إبراهيم عليه السلام كي يطمئن قلبه. وقد دعا الأنبياء جميعاً إلى إعمال العقل (أَفَلا تَعْقِلُونَ)، والفكر (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)، واستعمال الحواس (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا). وخرج من تراثنا العربي الإسلامي التيار الاعتزالي الذي يعتمد على العقل قبل ديكارت وكانط وهيجل. ويقيم الإيمان على أصليْ التوحيد والعدل، وكلاهما مبدأ عقلي.
والاجتهاد مصدر رابع للتشريع يقوم على العقل والتجربة والقياس الشرعي للبحث عن العلة الفاعلة في الفرع الموجودة في الأصل لتعديتها. وقد وحد الفلاسفة بين العقل والنقل، بين الحكمة والشريعة، بين النظر والذوق، بين البرهان والحدس. فما الذي جعل العقل محتلاً؟ ما هي مصادر احتلال العقول؟ لماذا بعد كل هذه التجارب القديمة والمعاصرة لتحرير العقول ظلت محتلة لصالح السلطة الدينية أو السياسية أو الاجتماعية؟ ما هي مرجعياتها وأطرها ومصادر معرفتها التي تمنعها من أن تكون حرة؟
هناك ثلاثة موانع تمنع العقول من أن تكون حرة، تعطيها معرفة سابقة التجهيز، خارج الزمان والمكان، مفروضة عليها، لا شك فيها، خارج النقد بل تستعصي على القراءة والتأويل لمواكبة كل عصر. وكلها احتلال بصرف النظر عن مصادره ودرجة انتشاره. الأول التراث القديم الذي أنشأه الآباء والأجداد استجابة لظروف عصرهم حينما كانوا منتصرين فاتحين. فخرج تراث في كل العلوم القديمة، العقلية النقلية، والنقلية، والعقلية يعبر عن هذا الزهو والافتخار للفاتح العربي الذي يبني صرحه فوق أعالي الجبال ليطل على العالم الذي بين يديه. خرج تراث يعطي القمة أكثر مما يعطي القاعدة، والأعلى له الأولية على الأدنى في تصور رأسي للعالم، أولوية النص على الواقع، وأولوية النقل على العقل، وأولوية الرجل على المرأة. وهو تراث الأشعرية الذي ساد منذ القرن الخامس الهجري حتى الحركات الإصلاحية الحديثة التي جهدت في التحول من الأشعرية إلى الاعتزال دون جدوى نظراً لتغلغل الأشعرية في القلوب والعقول والأذهان. أصبح القدماء يفكرون لنا، ونحن نطيعهم ونتبعهم، فما ترك السلف للخلف شيئاً. وعم التقليد. نفكر بقوالب عصر مضى على رغم اختلاف الزمان، والتحول من النصر إلى الهزيمة، ومن الفتح إلى الاحتلال، ومن المركز إلى المحيط، ومن المعلم إلى التلميذ،
ومن الريادة إلى التبعية المعرفية. وهذا يتطلب إعادة بناء التراث القديم ما دام متواصلاً في الوعي الحديث، يحرك، ويدفع، ويحدد تصورات العالم ومعايير السلوك. يتطلب تحويل العقيدة إلى ثورة، والنص إلى واقع، والنقل إلى إبداع، والفناء إلى بقاء، والرواية إلى عقل. ويحتاج إلى التحول من التصور الرأسي للعالم إلى التصور الأفقي، من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف. فالأعلى هو الأمام لإبراز مفهوم التقدم، والأدنى هو الخلف لنقد مفهوم التخلف. تحول التراث القديم، وهو من صنع الرجال إلى تراث “مقدس”! وساويناه بالدين.
وعادلناه بالوحي. والغالب عليه هو تراث السلطة قديماً وليس تراث المعارضة قديماً أيضاً، الأشعرية وليس الاعتزال، الحنبلية وليس المالكية أو الحنفية، النص وليس الواقع والعقل. استعملته بعض النظم السياسية تدعيماً لشرعيتها وتكفيراً للمعارضة، الخوارج الذين خرجوا على إجماع الأمة، والمعتزلة الذين اعتزلوها، والشيعة الذين تشيعوا لفريق دون فريق، واستعملته السلطة الدينية تدعيماً للسلطة السياسية ولاحتكار التفسير والتأويل والاجتهاد، التراث القديم يحتل العقول. ولا تجرؤ على التحرر منه بإعادة القراءة والتأويل أو بالنقد والتجاوز. والاجتهاد يحرر العقول، والثقة بالنفس.
يعيد إلى العقل وظيفته في التفكير. العقل المحتل يعيد الاحتلال إلى الوطن والشعب، إلى الأرض والناس. تحرير العقول إذن سابق على تحرير الأوطان وإلا عاد الاحتلال، وانتقل من الخارج إلى الداخل، من الظاهر إلى الباطن، من البدن إلى الروح. فاحتلال العقل يعني انحساره وحصاره وتهميشه واستبعاده. واحتلت العقول من مصدر ثانٍ للمعرفة لدى النخبة القائدة والحاكمة والفعالة وهو التراث الغربي الذي أصبح نموذجاً للحداثة، وبديلاً ناجحاً، والسبب الرئيس في تقدم الغرب. انبهرت النخبة به. وانقطعت عن ماضيها، وتواصلت مع حاضرها. رفضت الموروث وقبلت الوافد.
واعتبرت ذلك رداً على سؤال أحد المواطنين لشكيب أرسلان: لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ فأكبر مشروع ثقافي هو الترجمة، الألف كتاب الأولى، الألف كتاب الثانية، مشاريع الجامعة العربية، المركز القومي للترجمة، المنظمة العربية للترجمة… إلخ. فنشأت طبقة من المعارف الجديدة فوق المعارف القديمة، منتزعة الجذور من موطنها الأصلي، ولم تزرع في الموطن الجديد؛ لأن الأرض صلبة غير مجهزة لما بها من زرع جاف في أرض جافة. سهل استبعاده من الأغلبية وثقافتها الموروثة.
ولا تتحرر العقول من هذا الاحتلال الأجنبي الجديد إلا بالتخلي عن النقل منه وتقليده، ورده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على مركزيته. فلا يوجد معلم أبدي ولا تلميذ أبدي. كانت مصر القديمة، والصين، والهند، وبابل، وآشور وكنعان معلمين في الماضي، والغرب تلميذاً. ثم أصبح الغرب الآن معلماً وبقية الحضارات تلاميذ. وبعد أزمة الغرب الحالية، انهيار المعسكر الاشتراكي أولاً، ثم الأزمة المالية في المجتمع الرأسمالي ثانيّاً، وبداية الخواء في الروح كما ظهر في التفكيكية وما بعد الحداثة، تستطيع الحضارات غير الغربية أن تستقل بنفسها وأن تحاور الغرب من موقع المساواة، أستاذان يتبادلان المعرفة أو تلميذان يتعلمان من بعضهما بعضاً. فتقضي على عقد العظمة عند الغرب وعلى عقدة النقص عند الحضارات غير الغربية. وبالتالي ينتهي احتلال العقول الناتج عن الانبهار بالغرب وتقديسه واعتباره المعلم الأبدي الذي لا يشيخ، والحضارة الدائمة التي لا يعتريها الفناء. واحتلت العقول بسبب مصدر ثالث، وهو عجز العقلين الأولين عن النهوض بالأمة وحل مشاكلها، وإلغائه كلية، واتباع الهوى والمصلحة، وإشباع الحاجات الأساسية، والبحث عن الحاجات التكميلية والتحسينية بتعبير الشاطبي. فالمجتمع ما زال هو مجتمع “سي السيد” يقوم على السلطة والتسلط وإطاعة الأوامر في الأسرة والمجتمع، وقبول الأمر الواقع والخوف من تغييره. فيتجه المواطن إلى البحث عن لقمة العيش من أجل البقاء، والحرص على مصلحته الشخصية في نطاق ضيق، ويتخلى عن المصلحة العامة والقضايا الوطنية الكبرى.
تصغر أهدافه، وتنكمش إرادته. فليس أمامه إلا ثلاث طرق: إلا الوصول إلى عتبات السلطة بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة فيصبح من رجال الأعمال، يمتلك السلطة والثروة في آنٍ واحدٍ، وينضم إلى الحزب الحاكم، ويتعايش مع الواقع ويتكيف معه. ويصبح من أقطابه ومن دعاة المحافظة على الوضع القائم، ويتمتع بمباهج الحياة. إن احتلال العقول هو حصارها في الزمن بين ماضٍ ولى ولكنه ما زال حيّاً فيها، ومستقبل لم يأتِ بعد وهي تقفز إليه، وحاضر لا تستطيع أن تغيره فتنغمس فيه.
ولا تتحرر إلا بفك حصار الزمن، والخروج من الماضي إلى الحاضر، والعودة من المستقبل إلى الحاضر، واكتشاف إمكانات الحاضر دون الغوص فيه أو الهروب منه. لا يتم تحرير العقول إلا بالدخول في مسار التاريخ، بين الماضي والحاضر والمستقبل أي دخول العقل في التاريخ.