الرئيسيةمقالات الرأي

الدكتور عادل عامر يكتب : إسرائيل وانتهاكها للقانون الدولي

بقلم الدكتور عادل عامر

أي حديث عن الحرب ومدى مشروعية ممارساتها، يستدعي الاحتكام إلى نصوص اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية التي تمثل صلب القانون الدولي الإنساني. وتضم أكثر القواعد أهمية للحد من همجية الحروب وللتصدي لما يُعرف بـ”الانتهاكات الخطيرة” لتوفر الحماية للأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية والذين توقفوا عن المشاركة فيها (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2014).

وبمطابقة مواد هذه الاتفاقيات بواقع الحرب في غزة، سنجد أن إسرائيل على مدار الشهور الماضية خرقت كل القواعد القانونية ذات الصلة.

فيما يتعلق باستهداف إسرائيل المدنيين، الذي نتج منه كل ما سبق ذكره من أرقام للضحايا، فإن إسرائيل خالفت المادة الثالثة المشتركة باتفاقيات جنيف الأربع، التي يحظر فيها: “الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب.” (اتفاقية جنيف الرابعة، 1949). كما يعد هذا الاستهداف انتهاكًا واضحًا وصريحًا لاتفاقية جنيف الرابعة المخصصة لحماية المدنيين، التي أفردت أيضًا حماية واحترامًا خاصين للجرحى والمرضى والعجزة والحوامل والمسنين والأطفال (المادة 16).

والأطفال تحديدًا هم أكثر المستهدفين في هذه الحرب. أما الممتلكات الخاصة والمنشآت العامة، فيعُد استهداف إسرائيل لها مخالفًا للمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي حظرت تدمير أي ممتلكات تخص الأفراد والدولة. والمستشفيات تحديدًا خصتها هذه الاتفاقية ومعها البروتوكولان الإضافيان الأول والثاني.

لكنها لم تفلت من يدي إسرائيل فاستهدفت مَن بها من أطقم طبية ومرضى وجرحى ومن احتموا بها بمنهجية شديدة، سواء بالحصار أو بالقصف. وارتكبت في بعضها مجازر، مثل: مستشفى المعمداني ومجمع ناصر الطبي. نصت الاتفاقية على أنه لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية ويجب احترامها وحمايتها (المادة 18).

كما لا يجوز وقف الحماية الواجبة للمستشفيات المدنية إلا إذا استخدمت، خروجًا على واجباتها الإنسانية (المادة 19). وهو ما فشلت إسرائيل في إثباته لإقناع الرأي العام العالمي بانتهاكاتها. وعليه، فأي هجمات متعمدة ضد المستشفيات تشكل مخالفة جسيمة لقوانين وأعراف الحرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الأساسي، 1998).       أما العقوبات الجماعية، فلم يغفل القانون الدولي الإنساني عن حظر التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميين الموجودين تحت سلطتها. فما تقوم به إسرائيل إذن من تهجير قسري وحصار لأهل غزة بالجوع والعطش، يعد انتهاكًا صريحًا للمادة 32 والمادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة، وكذلك للمادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

لماذا تقضي إسرائيل على الناس والحياة في غزة؟

تجيب إسرائيل على هذا السؤال ويكرر الإجابة من بعدها داعموها في الغرب، بأن الهدف هو “القضاء على حماس” (Wall Street Journal, 2024). لكن الواقع الذي فرضته إسرائيل على غزة إجابته مختلفة. الأرقام التي سبق عرضها، والتصريحات الإسرائيلية الرسمية والوثائق التي سنستعرضها فيما يلي تقدم إثباتًا على أن هذا المستوى غير المسبوق من الانتهاكات ليس للقضاء على حركة حماس، بل مرحلة جديدة مهمة نحو تحقيق هدف إسرائيل المخطط له منذ عقود وهو الاستيلاء على غزة وتطهيرها عرقيًّا لتصبح جزءًا من “الوطن التاريخي”. أولى الوثائق المهمة التي تشرح كيف أن احتلال غزة وإبادة أهلها هدف إسرائيلي قديم هو كتاب “أكبر سجن على الأرض” للمؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي إيلان بابيه (إيلان بابيه، 2020، أكبر سجن على الأرض، سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة).

ويتناول القصة من جذورها، ويستند إلى وثائق رسمية حصل عليها بابيه. تقول الوثائق إن احتلال قطاع غزة والضفة الغربية كان محل نقاش حكومي بعد نكبة 48  مباشرة. وكان السؤال المطروح في كل اجتماعات الحكومة وإجاباته محل جدل بين الوزراء، هو ماذا سيُفعل بأهل غزة. إلى أن جاءت حرب 67، ويقدم هنا بابيه سردية مختلفة عن تلك الإسرائيلية التي تدعي أن الحرب كانت نتيجة حتمية لتصاعد التوتر بينها وبين سوريا ومصر، بل كانت -حسب بابيه- محاولة لاحتلال ما يمكن احتلاله من الأراضي العربية.

في 18  يونيو 1967، اجتمعت الحكومة الإسرائيلية لتناقش سبل احتلال القطاع والضفة وطرد الفلسطينيين منها. وكان هناك “قاسم مشترك واحد وهو الرغبة في تقليص عدد اللاجئين في غزة إلى الحد الأدنى”. و”تراوحت مواقف الوزراء بين إعادة توطين اللاجئين بالقوة أو محاولة حملهم على الرحيل” (إ. بابيه، 2020، ص66). واقترح موشيه كرمل أحد أبرز الأسماء في النكبة “حل مسألة اللاجئين من خلال تشجيعهم على الهجرة وإعادة توطينهم في سيناء” (إ. بابيه، 2020، ص66).

ويشرح إيلان بابيه عبر فصول الكتاب كيف تطورت سياسة التضييق على الفلسطينيين وأصبحت استراتيجية محكمة التطبيق. ما حوَّل قطاع غزة إلى سجن مشدد الحراسة، سُلب فيه الفلسطينيون من جميع حقوقهم حتى الحق في الحياة.  يختتم إيلان بابيه كتابه بفصل يستعرض فيه جاهزية إسرائيل الدائمة لاحتلال القطاع وإبادة أهله. ففي عام 2004، وكمحاكاة لغزة، بدأ الجيش الإسرائيلي بناء مدينة عربية وهمية في صحراء النقب لها حجم مدينة حقيقية وبها كل تفاصيلها. وبعد إتمامها، بدأت قوات من الجيش تجري تدريبات على الحرب وعلى هزيمة غزة الخيالية. فتدربوا على القتل وهدم المنازل وقصف المدنيين بالفوسفور وأُطلق على هذه التدريبات “الرصاص المصبوب”، وهو نفس الاسم الذي سُميت به بعد ذلك حرب 2009 على غزة.  ثم تأتي تصريحات الوزراء الحاليين، أمثال بن غفير وسموتريتش وإلياهو، التي دعوا فيها أكثر من مرة إلى التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة أو إلى فتح باب الهجرة الطوعية لتتطابق مع مقترحات أو مخططات وزراء حكومات ما بعد النكبة وما بعد حرب 1967 (CNN, 2024 & Reuters, 2023). ولا يمكننا التغاضي عن مخطط الجزيرة الصناعية الذي عكف عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتز منذ سنوات وانتهى منه في 2017 وعاد إلى التلويح به بعد اندلاع الحرب بأسابيع قليلة. يتحدث كاتز عن “جزيرة صناعية قبالة سواحل قطاع غزة تساهم في توفير الاحتياجات الاقتصادية للقطاع الفلسطيني والحفاظ في الوقت نفسه على الأمن الإسرائيلي” (Euronews, 2024). ومهما كان نفي فكرة استخدام الجزيرة لنقل الفلسطينيين، فكيف نصدق أن إسرائيل تفكر في جودة حياة الفلسطينيين في الوقت الذي تحرمهم من  أدنى مقومات الحياة وتحاصرهم بالجوع والعطش وتقتل من يحاولون الحصول على مساعدات الإنزال الجوي! من الوثائق أيضًا، تسريب الصحافة الإسرائيلية بعد أسبوع من بدء الحرب على غزة ورقة مفاهيمية صدرت عن مركز للأبحاث والسياسات يتبع الحكومة الإسرائيلية معنيٍّ بتقديم مقترحات وتحليلات إلى وكالات الأمن والاستخبارات والجيش في إسرائيل. جاءت الورقة تحت عنوان: Policy Paper: Options for a policy regarding Gaza’s civilian population

“وقدَّمت ثلاثة خيارات بشأن مستقبل الفلسطينيين في قطاع غزة في إطار الحرب الدائرة وأوصت بأن مسار العمل الأفضل يقتضي نقل كامل للفلسطينيين، تحديدًا إلى سيناء” (+972 Magazine, 2023). ومن المهم كذلك أن نشير إلى وثائق الدعم الأمريكي العاجل في هذا الصدد. فقد وجه مكتب الرئيس الأمريكي في 20 أكتوبر 2023 طلبًا إلى الكونجرس للموافقة على “اعتمادات مالية إضافية” بقيمة 106 مليار دولار لأغراض حماية الأمن القومي الأمريكي ومساعدة الحليفتين: أوكرانيا وإسرائيل، وستستخدم “لدعم المدنيين المهجرين والمتضررين من الصراع الحالي، ومن ضمنهم اللاجئون الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، وكذلك للتعامل مع الاحتياجات المحتملة لأهل غزة الذين سيفرون إلى بلدان مجاورة” (White House, 2023).

خاتمة

أقرت إسرائيل في أعقاب النكبة سلسلة من القوانين والسياسات والممارسات التي تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من كل حقوقهم حتى حقهم في الحياة. وترقى السياسات جميعها إلى مستوى ما يُعرف بـ”الانتهاكات الخطيرة” (اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2014) التي يجرمها القانون الدولي ويحث على محاسبة ومعاقبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات وتقديمهم إلى العدالة. لكن سيظل كل ذلك في إطار الكلام فقط، أي نصوصًا على ورق، فقد صُممت منظومة العدالة الدولية لكي تكون عقيمة لا تنجب عدلًا. فما تفعله إسرائيل اليوم في قطاع غزة، قد نراه غدًا في الضفة الغربية دون رادع.

الدكتور عادل عامر

دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي

ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري

وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا

01118984318

01555926548

01024975371

01277691834

زر الذهاب إلى الأعلى